و دخلت الخيل الأزهر ...!!!


و دخلت الخيل الأزهر ...!!


مع تواتر الروايات عن إسلام السيدة كاميليا شحاتة و محاولتها إشهار إسلامها في الأزهر , و ما صاحب ذلك من تطورات و أحداث , أتصور أن أخطر ما في هذه القضية هو ما يمكن أن نسميه الدخول الثاني للخيل إلى الأزهر , كان الدخول الأول في أكتوبر 1798 م حين دخلت الخيول الفرنسية الأزهر , و أعمل جنود نابليون السيف في طلبته وشيوخه , ونهبت الكتب و مزقت مخطوطات عمرها قرون , ألقوها أرضا و وطئتها سنابك الخيل , كما ذكر ذلك الراحل العظيم محمد جلال كشك رحمه الله في دراسته القيمة عن الحملة الفرنسية على مصر : ( ودخلت الخيل الأزهر ) و التي أقتبس منها عنوان المقال .
تلك هي المأساة في حقيقتها .. أن يتعدى نفوذ الكنيسة الدولة بكل أجهزتها وإداراتها و يصل إلى الأزهر , و ترتع فيه خيولها كيفما شاءت لتمنع امرأة أسلمت وجهها لله من إشهار إسلامها وتوثيقه , و مكمن الخطورة أن الأزهر – على ضعفه – يبقى رمزا للإسلام والمسلمين و حصنا من حصونه المنيعة التي استعصت على الغاصبين بل و كان خط الدفاع الأول عن الوطن ضد الاستعمار و حافظا لهوية الأمة ضد المستغربين من أذنابه , و على الدوام كان ملاذ الأمة عند النوائب , و التاريخ خير شاهد على ذلك , و على الدوام فطن أعداء الأمة لذلك , و لذا لم تتوقف سهامهم عنه حتى صار إلى ما صار إليه .
في مأساة كاميليا تبرز من بين السطور كلمة السر وراء هذه الغطرسة التي نتابع تفاصيلها مع كل أزمة تمر بها الكنيسة : ( البلد مش ناقصة ) , و لعل المتتبع لمسيرة الكنيسة سيلحظ من دون عناء أن هذه الكلمة هي السر في استمراء قادة الكنيسة و كهنتها لهذه الغطرسة .. هذه الكلمة التي صارت سيفا مسلطا على رقاب البلاد والعباد عند كل أزمة , بدءا من أبسط المشكلات و أهونها و انتهاء بالقضايا الكبرى التي تمس أمن البلاد القومي وتهدد وحدتها ونسيجها الوطني , و باتت هذه الكلمة مشهرة في وجه كل من تسول له نفسه أن يطالب بأن يعيش حياته كمواطن مسلم في بلد مسلم , و صرنا نسمعها من الجميع , بدءا من العسكري الصغير و انتهاء بكبار المسئولين في الدولة , فإذا حدث أي خلاف بسيط بين مواطنين مصريين أحدهما مسلم و الآخر مسيحي و كان الحق في جانب المسلم يقال للمسلم على الدوام ( البلد مش ناقصة ) في إشارة لضرورة تنازله عن حقه , و إذا ثار المسلمون لأن خمسة أو عشرة يريدون بناء كنيسة في قرية لا يتعدى عدد الأسر المسيحية فيها أصابع اليد الواحدة بدون تصريح أو تراخيص قيل للمسلمين ( البلد مش ناقصة ) و إذا اختارت زوجة كاهن الإسلام عن قناعة و إيمان و جاءت إلى الأزهر مهاجرة إلى ربها أغلق الأزهر الباب في وجهها و ردها إلى الكنيسة تسيمها سوء العذاب لأن ( البلد مش ناقصة ) , و إذا تمترس مجموعة من الأشقياء خلف حصون الكاتدرائية بالعباسية و قذفوا الضباط والجنود بالحجارة فيصاب العشرات منهم بالجروح كما حدث في واقعة إسلام الشهيدة وفاء قسطنطين .. لم ينبس أحد ببنت شفة لأن ( البلد مش ناقصة ) و إذا أراد محافظ المنيا أن يحفظ للدولة بعضا من هيبتها المبعثرة في مواجهة مطران مغاغة المتمرد و كان رد الأخير عليه : يا أنا يا المحافظ في المحافظة .. يخيم على الجميع صمت القبور و لا يرد عليه و لا يوقفه أحد عند حده لأن ( البلد مش ناقصة ) , إذا علمنا هذا وضح للجميع سر حرص هؤلاء على أن تظل البلاد على الدوام فوق صفيح ساخن , فما أن تهدأ زوبعة حتى يتم افتعال أخرى لتظل البلاد دائما ( مش ناقصة ) و تستمر حالة الانبطاح أمام هؤلاء و مخططاتهم , و لعل أوضح مثال على ذلك هو القضية التي نحن بصددها الآن و من قبلها كانت قضية الزواج الثاني للأقباط . فما أن صدر الحكم حتى جيش البابا شنودة الجيوش و سير المظاهرات و أقام الدنيا و لم يقعدها , وكان أمامه أكثر من حل لهذه المسألة أبسطها أن يتجاهل الحكم ولا يطبقه , و لكن ليس هذا هو المطلوب , و إنما أن تظل البلاد دائما ( مش ناقصة ) و هي البيئة الخصبة لتحقيق المكاسب الطائفية , فتخرج في كل مرة قائمة المطالب أو إن شئت فقل الابتزازات .
في هذا الجو المشحون والمتوتر يبقى من حق عموم إخواننا الأقباط علينا أن ننبههم إلى خطورة ما يسوقهم قادة الكنيسة إليه , و يبقى من حق البلاد علينا – كذلك - أن ندق ناقوس الخطر للجميع .. أفيقوا قبل فوات الأوان .. و لا أجد هنا أبلغ من كلمات قالها إمام الدعاة في عصره الشيخ محمد الغزالي في كتابه القيم ( قذائف الحق ) فيقول رحمه الله (( إذا أراد إخواننا الأقباط أن يعيشوا كأعدادهم من المسلمين فأنا معهم في ذلك .. لهم ما لهم من حقوق ، وعليهم ما عليهم من واجبات ، أما أن يحاولوا فرض وصايتهم على المسلمين ، وجعل أزِمَّة الحياة الاجتماعية والسياسية في أيديهم فلا .. إذا أرادوا أن يبنوا كنائس تسع أعدادهم لصلواتهم وشعائرهم الدينية فلا يعترضهم أحد .. أما إذا أرادوا صبغ التراب المصرى بالطابع المسيحي وإبراز المسيحية وكأنها الدين المهيمن على البلاد فلا )) .. (( إن الاستعمار أشاع بين من أعطوه آذانهم وقلوبهم أن المسلمين في مصر غرباء ، وطارئون عليها ، ويجب أن يزولوا، إن لم يكن اليوم فغداً . وعلى هذا الأساس أسموا جريدتهم الطائفية “ وطني “ ! ومن هذا المنطلق شرع كثيرون من المغامرين يناوش الإسلام والمسلمين ، وكلما رأى عودة من المسلمين إلى دينهم همس أو صرخ : عاد التعصب ، الأقباط في خطر !! )) انتهى كلام الشيخ رحمه الله رحمة واسعة .
و أنا بدوري أقول للعقلاء منهم .. كفى .. رفقا بأنفسكم وبأبنائكم من بعدكم .. لا تزرعوا حقدا وتعصبا و كراهية , لأن زرعكم هذا سوف يأكل منه أبناؤكم إن عاجلا أو آجلا , و لا يعولن أحد منكم على النسيان , فواهم - بل و غارق في الوهم - من يظن أن المسلمين نسوا أختهم الشهيدة وفاء قسطنطين , بل إنها - والله - لغصة في حلق كل مسلم غيور على دينه .. لا يغرنكم أبدا خلو الساحة أمامكم و انفرادكم بها لتحقيق مكاسب طائفية أو انتصارات وهمية تحققونها هنا أو هناك , فدوام الحال من المحال كما يقولون , سواء في ذلك الداخل بضعفه و هوانه و الخارج بجبروته و طغيانه , و لتعلموا و ليعلم الجميع أن اللاعب الأساس في هذه المعركة ما زال بعيدا عن الساحة , و ليس من مصلحة أحد أن تستدعوه – بتصرفاتكم – للنزول إليها, فساعتها سوف يخسر الجميع و ستكونون أول الخاسرين و سوف يندم الجميع و ستكونون أول النادمين و لات حين مندم , ذلكم هو رجل الشارع البسيط .. هذا الذي لا تتحكم في تصرفاته و أفعاله أية مواءمات سواء كانت سياسية أو حتى شرعية , ساعتها ستتحقق الفوضى المدمرة و ليست الخلاقة كما بشرتنا بها منذ سنوات كونداليزا رايس , ساعتها لن يسود إلا قانون الكثرة ... هل يعرفه منكم أحد ؟!!
---------------------------------------
المقال على صفحات جريدة المصريون

الإخوان والمشاركة السياسية

الإخوان و المشاركة السياسية


مع قراءة آخر تعليق على مقالنا السابق ( الإخوان و التغيير المنشود ) أيقنت أن رسالتي لم تصل إلا للقليل من القراء الكرام , و أن الأكثرية لم تستوعب حقيقة ما قصدت إليه , و قد أرجعت ذلك لسببين : أما أولهما فهو قصور مني في طرح الفكرة و عدم توضيحها بشكل كاف , لأنه من المعروف أن الكاتب هو المسئول عما يصيب القارئ من لبس في فهم ما كتب و ليس القارئ .
و أما الثاني فهو حالة التربص و الاستنفار الذهني الغريب لدى العديد من الإخوان تجاه كل ما يخالف تصوراتهم و أفهامهم , و قد و صل الأمر لحد التفتيش في النوايا و المقاصد !!!, فوضعني أحدهم في زمرة القاعدين المثبطين و اتهمني بأن الشيطان يزين لي سوء عملي و أنا بدوري أزين للإخوان ما زينه الشيطان لي . و هنا ألفت نظر القائمين على برامج التنشئة و التربية في الإخوان لضرورة معالجة هذه الآفة , فليس بمقبول أبدا أن يكون هذا حال من يعقد عليهم الكثير الأمل في النهوض بالبلاد من كبوتها , فإذا كان هذا حالهم مع من يخالفهم الرأي و هو يحمل نفس الفكر – وقد تعمدت إظهار هذا – فكيف يكون حالهم مع غيرهم من أصحاب الأفكار و الدعوات الأخرى ؟!! بل كيف يكون حالهم مع أصحاب الأفكار المناهضة للفكرة الإسلامية أساسا ؟!!. رحم الله الشافعي حين قال : إن رأيي صواب يحتمل الخطأ و رأي غيري خطأ يحتمل الصواب .
فهم كثيرون – و معهم بعض العذر – أنني أدعو الإخوان لمقاطعة الحياة السياسية و أن يتحولوا لجماعة من الدراويش يجلسون في المساجد يقرؤون القرآن و يكتفون بهذا و أن يدعوا ما لقيصر لقيصر و ما لله لله !!! , و الحقيقة أنني لا قلت هذا و لا هو ما قصدت إليه , و كل ما طلبته من الإخوان أن يتبعوا سنة الله في التغيير و لا يصادموها و لا يتعدوها أو يقفزوا عليها , و سنة الله في التغيير أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم , و كنت أتمنى على الإخوان مناقشة هذا , فهذا هو لب المسألة و جوهر الإشكال , و ألا يصبوا عليِّ جامِّ غضبهم لمجرد اجتهاد قد أكون فيه محقا أو لمجرد أنني خالفت الموجة السائدة و سبحت بعض الوقت ضد التيار , و إلا فأنا على يقين بأن انسحاب الإخوان من الحياة السياسية إنما هو بمثابة انتحار نحن منهيون عنه شرعا فضلا عن أنه قعود عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و مدافعة الباطل و حزبه , و معاذ الله أن أطلب إلى الإخوان ذلك , ولكن في نفس الوقت أتساءل : من الذي قصر المشاركة السياسية على المنافسات الانتخابية ؟ إن المشاركة السياسية تبدأ ببيان أو وقفة احتجاجية و تنتهي – فيما أتصور – بالعصيان المدني العام . و تبقى المنافسات الانتخابية وسيلة تخضع – في استخدامها – لمقاييس الربح و الخسارة أو النفع و الضرر و مدى استعداد الناس لها , و هي كذلك خاضعة للظروف و الأجواء المحيطة بها فقد تكون في وقت لازمة وقد تكون في وقت آخر مضيعة للوقت والجهد و المال , و قد تكون في مكان نافعة وذات جدوى و قد تكون في مكان آخر مغامرة غير مأمونة العواقب , و هي و إن كانت أفضل ما اخترعه البشر من وسائل لتداول السلطة حتى الآن – كما أشار أحد الإخوان الكرام – إلا أنها ليست هدفا في حد ذاتها , و هنا يبقى السؤال مطروحا : هل أعددنا أنفسنا و هل أعددنا الناس لهذه المنافسة ؟ الإجابة نجدها في هذه الواقعة : حكى لنا أحد الإخوان – يعمل طبيبا - أنه في انتخابات الشورى السابقة كان وكيلا لمرشح الإخوان في قريته و لم يجد الضابط المسئول من وسيلة لإخراجه من اللجنة إلا اختلافا في الاسم بين التوكيل و بطاقة الرقم القومي , و بعد اخذ و رد و شد و جذب طلب الضابط منه أن يحضر ثلاثة من أهل القرية ليشهدوا أن فلانا هذا هو هو ففعل و أحضرهم , و كان من بين الثلاثة ابن عمه !! و مدير المدرسة التي تخرج فيها !! , و وقف الثلاثة أمام الضابط فسألهم : هل هذا هو فلان ؟؟؟ فلم ينبس أحدهم ببنت شفة . لا أتصور أن أحدا يجادلني في أن السعي إلى التغيير عبر صندوق الانتخاب في بيئة كهذه – بكل ما فيها و ما حولها - أو في مناخ كهذا إنما هو – كما قلت آنفا – سعي وراء سراب أو جري خلف أوهام . إن من أوجب الواجبات – والحال هكذا – أن نعمل على تغيير هذه البيئة واستبدال مناخ صالح بهذا المناخ الفاسد الذي أفسد كل شيء حتى ضمائر الناس . ولذلك قلت نصا إن مبتدأ التغيير هو نحن .. هو تغيير هذه البيئة و إصلاح هذه النفوس , حينئذ ستجد الحرية أعوانا لها مدافعين عنها على استعداد للموت في سبيلها بدلا من الحياة أذلاء .. ذلك أن نفوسهم قد تخلصت ابتداء من القابلية للهوان . حينئذ ستكون الحكومة فرزا طبيعيا لبيئة صالحة و مناخ صحيح .
تخوف كثيرون من أن النظام لن يتركنا نصلح أنفسنا أو نصلح المجتمع , حسنا ... فلتكن هذه إذن معركتنا و ليكن في هذا الميدان نزالنا , و ليكن في هذا جهادنا و تضحياتنا , و هؤلاء – مع كامل احترامي لهم – قد فاتهم كنه الدعوة و طبيعتها و مقاييس النجاح والفشل فيها . في قصة أصحاب الأخدود شاءت إرادة الله عز وجل – لحكمة يعلمها – أن تنتصر دعوة الغلام و يعم بهاؤها و يسطع نورها ساعة مقتله ( فآمن الناس برب الغلام ) , و هذه رسالة لكل صاحب دعوة : أن موازين الأرض غير موازين السماء , و أن مقاييس الدعوة تختلف عن مقاييس المذاهب الأرضية . ولن نذهب بعيدا .. فلنا في التاريخ الحديث خير شاهد , فما أمر ما فعله عبد الناصر مع الإخوان عنا ببعيد , فقد فعل الرجل معهم ما يجعل مجرد ذكرهم ضربا من الخيال , و ها نحن بعد رحيل عبد الناصر و انتقال العديد من الإخوان إلى جوار ربهم نرى الدعوة و قد طبقت الآفاق , و عم بهاؤها أرجاء المعمورة .
من شواهد طلب الحق و الركون إليه أن تكون لمن يريد ذلك و يسعى إليه وقفات مع النفس للمراجعة و استشراف المستقبل , و أنا – بدوري – أطلب من الإخوان تلك الوقفة : هل ما زال الناس ينظرون إلينا على أننا أصحاب دعوة إسلامية أم أن الصورة قد أصابها بعض الدخن ؟ ألا ينظر إلينا كثير من الناس على أننا مجرد حزب سياسي ينافس الحزب الوطني على السلطة ؟ هل لا تزال صورة الواحد من الإخوان كما كانت ( الرجل الطيب بتاع ربنا – ليس الدرويش بالطبع - )؟ أم أن كثيرا من الناس صاروا يرونه ( الرجل بتاع الانتخابات )؟ . و الذين تهكموا على دعوتي إلى العودة إلى المساجد أحيلهم لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظروا كيف كان المسجد مركز إشعاع حضاري وفكري و كيف كانت تنظم شؤون الأمة كلها فيه ؟ و سيقول قائل : لن يسمح لنا النظام , حسنا .. فليكن هذا ميدانا للجهاد كي نعيد للمسجد ريادته و محوريته في حركتنا مع الناس و لا نستجيب لمحاولات إقصائنا عن بيوت الله عز وجل , لذلك فليعمل العاملون و في ذلك فليتنافس المتنافسون , و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
--------------------------------------------------------

المقال على صفحات جريدة المصريون

الإخوان والتغيير المنشود

الإخوان والتغيير المنشود



في خضم تلاطم الأمواج تبرز أهمية البوصلة في المحافظة على السير في الاتجاه الصحيح , عاصمة من الزلل , حافظة من التيه , و إذا كان هذا لازما و حتميا مع أمواج البحر .. فإنها مع أمواج الأفكار و الرؤى أشد ضرورة و حتمية . و إن أخشى ما يخشاه المرء على أصحاب المبادئ و الدعوات أن يفقدوا البوصلة , فيبتعدون عن جادة الطريق , ويصرفون جهودهم فيما لا طائل من ورائه ..ثم يجدون أنفسهم في النهاية يحاربون في غير ميدان المعركة الحقيقي .
و لما كانت الدعوة إلى التغيير في مصر هذه الأيام تتصدر قائمة اهتمامات الناس عامة و النخب منهم على وجه الخصوص , و لما كان الإخوان يقفون في صدارة القائمين على هذه الدعوة وهذا قدرهم - بفتح الدال- و هو كذلك قدرهم – بتسكينها- .. لما كان ذلك كذلك كانت هذه الكلمات .
إن ميدان المعركة الحقيقي الذي ينبغي أن تنصرف إليه الجهود و توجه له الطاقات هو النفس البشرية , فالإنسان هو المحور و الأساس في عملية التغيير المنشودة , و بدون إصلاح النفس البشرية .. و بدون إصلاح الفرد أولا يصبح الحديث عن التغيير محاولة بائسة لزراعة صحراء قاحلة جرداء لا خير فيها و لا نماء . هنا يسطع بنوره ذلكم القانون الإلهي الخالد ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) تلك هي سنة الله في الخلق , و لن تجد لسنة الله تبديلا و لن تجد لسنة الله تحويلا . و في هذا يقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ناصحا ( أيها الناس ميدانكم الأول أنفسكم , فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر , و إن أخفقتم في جهادها فأنتم عما سواها أعجز , فجربوا الجهاد معها أولا ) .
منذ فترة جمعني لقاء بثلة من الطيبين الأطهار , و صار حديث عن أولويات الحركة الإسلامية و ما ينبغي أن يكون في صدر اهتماماتها , فكان رأيي المتواضع : أن نعيد للإنسان إنسانيته المفقودة .. و أن نرجعه إلى نفسه السوية , فإن كثيرا مما نواجهه في حياتنا اليومية من فوضي وبلطجة و سيادة قانون الغاب بل و إدمان مخالفة كل ما هو إنساني .. كل هذا لا يمكن صدوره عن أناس أسوياء , و إلا فكيف نفسر – مثلا - سلوك من يسير بسيارته ليلا في الطريق المعاكس على الخط السريع ؟! لقد فقد هذا الكائن إحساسه بالآدمية , لأن الله سبحانه وتعالى قد جبل بني آدم على حب الحياة , وهذا بتصرفه يعرض – أول ما يعرض – نفسه لخطر الموت . إن جانبا كبيرا من محنة الناس يكمن قي فساد الأذواق و انحراف الطباع , و لا يقبل القبح إلا صاحب نفس معكوسة منكوسة , وسوي النفس إلى الإيمان أقرب . و لقد توقفت كثيرا أمام كلمات طيبات لإمامنا الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى حيث يقول رضي الله عنه في رسالته دعوتنا في طور جديد .. ( إن الإسلام يريد في الفرد : وجدانا شاعرا يتذوق الجمال والقبح , و إدراكا صحيحا يتصور الخطأ و الصواب , و إرادة حازمة لا تضعف ولا تلين أمام الحق ) . لله درك يا إمام .. نعم .. فصاحب النفس السوية التي فطر الله الناس عليها يتذوق الجمال فيأنس إليه و يحبه , و يتذوق القبح فينفر منه و يهجره .
و لقد أوتي فيلسوف الإسلام العظيم مالك بن نبي الحكمة من أطرافها و هو يؤسس لنظرية التغيير الاجتماعي على هدي من الإشعاع النوراني الأول ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فيقول رحمه الله ( لكي لا نكون مستعمرين يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار ) هكذا .. و ببساطة معجزة يقرر فيلسوفنا العظيم و فق معادلة رياضية بسيطة : أن مبتدأ التغيير هو نحن .. و أن المشكلة الحقيقية تكمن في قابليتنا للاستعمار . و هكذا .. إذا أردنا أن نعيش أحرارا فيجب علينا أولا أن نتخلص من قابليتنا للاستعباد و إذا أردنا أن نعيش كراما فينبغي أن نتخلص – أولا – من قابلية نفوسنا للهوان . و على نفس النهج يقرر شهيد القرآن سيد قطب رحمه الله أن فرعون مصر قد استخف قومه لأنهم كانوا فاسقين .. و أنهم لو لم يكونوا فاسقين لما استخفهم و لما أطاعوه فأوردهم المهالك . و يقول رحمه الله في موطن آخر ( إن الضعفاء إذن في النار مع الذين استكبروا . لم يشفع لهم أنهم كانوا ذيولاً وإمعات ! ولم يخفف عنهم أنهم كانوا غنماً تساق ! لا رأي لهم ولا إرادة ولا اختيار ! لقد منحهم الله الكرامة . كرامة الإنسانية . وكرامة التبعة الفردية . وكرامة الاختيار والحرية . ولكنهم هم تنازلوا عن هذا جميعاً . تنازلوا وانساقوا وراء الكبراء والطغاة والملأ والحاشية . لم يقولوا لهم:لا . بل لم يفكروا أن يقولوها ) .
لقد أثبتت التجارب مرة تلو أخرى أن صندوق الانتخاب ليس معبرنا إلى التغيير المنشود , و لقد بات ذلك راسخا في وجدان الجميع ’ و أنا أربأ بالإخوان أن يجرهم النظام أو – غيره - إلى معركة وهمية تبعثر فيها الجهود و تستنفذ فيها الطاقات انشغالا بالجزئيات عن الكليات و بالفروع عن الأصول و بالقضايا الهامشية عن قضايا الأمة الكبرى , وليس خافيا على أحد أن أعداء الأمة و مقاومي نهضتها ما انفكوا يخططون لذلك ليل نهار , وقديما قالوا : لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين . و لعله من المناسب هنا استحضار ما قاله مالك بن نبي في رائعته ( شروط النهضة ) .. يقول رحمه الله ( فلا يجوز لنا أن نغفل الحقائق , فالحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه وتتنوع معه , فإذا كان الوسط نظيفا حرا فما تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه , و إذا الوسط كان متسما بالقابلية للاستعمار فلابد من أن تكون حكومته استعمارية ) . فإذا كان الأمر كذلك فإن السعي للتغيير المنشود و المأمول عبر صندوق الانتخاب قد صار جريا وراء سراب و بحثا عن أوهام .
أيها الإخوان الكرام .. تعالوا نعيد تقديم أنفسنا للناس من جديد .. أصحاب دعوة إسلامية سنية سلفية تستقي الإسلام من ينابيعه الصافية حيث محمد صلى الله عليه وسلم و صحبه الأخيار الأطهار , تعالوا نعيد للحياة جمالها و زينتها بأخلاقياتنا الربانية التي تسمو على الوحل و ترفرف في السماء , تعالوا نعيد للمسجد ريادته و محوريته في حركتنا مع الناس , تعالوا نسجل أسماءنا في سجلات الشرف والكرامة حيث نلتمس البركة في حلق الذكر والعلم , تعالوا نسمع الناس : قال مالك و قال الشافعي و رجحه بن حنبل و اختاره بن تيمية , و ضعفه بن حجر و ذكره الشوكاني في الموضوعات , تعالوا نعمر بيوت الله و نذكر فيها اسمه و نسبح له فيها بالغدو و الآصال , تعالوا نصلح ما أفسده المفسدون في العلاقة بين الناس و كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم , تعالوا نكون أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين و لا نخاف في الله لومة لائم , تعالوا نعيد اللحمة لصف العاملين للإسلام و إن خالفنا أو حتى ظلمنا بعض أبنائه فالجميع في النهاية يعملون لصالح الإسلام و المسلمين كل فيما يجيده و يحسنه .
لهذا فليعمل العاملون , وفي ذلك فليتنافس المتنافسون , و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
---------------------------------------------------------
المقال على صفحات جريدة المصريون